فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.في رياض آيات السورة الكريمة:

.تفسير الآيات (1- 5):

قوله تعالى: {والضحى (1) وَالليل إِذَا سجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4) ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) المعز لمن أراد، الكريم البر الودود ذي الجلال والإكرام (الرحمن) الذي عمن بنعمته الإيجاد الخاص والعام (الرحيم) الذي أعلى أهل وده فخصهم بإتمام الإنعام.
ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق مطلقاً، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده، وكان به- صلى الله عليه وسلم صلاح الدين والدنيا والآخرة، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى، فقال مقدماً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضى الله عنه قصداً أولياً من النور الذي يملأ الأقطار، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار: {والضحى} فذكر ما هو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته، وأضوأه وهو صدره، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق.
ولما ذكر النهار بأشرف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله، أتبعه الليل مقيداً له بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال: {والّيل} أي الذي به تمام الصلاة؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً بظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار، قيد بالظلام الخالص فقال: {إذا سجى} أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل فخلص فغطى بظلامه كل شيء، والمتسجي: المتغطي، ومع تغطيته سكنت ريحه، فكان في غاية الحسن، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول- صلى الله عليه وسلم من المحكم، والثاني مشيراً إلى المتشابه، وهذا الأربعة الأحوال للنور والظلمة- وهي ضوء ممتزج بظلمة، وظلمة ممتزجة بضوء، وضياء خالص وظلام خالص- الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها، فروحه نور خالص، وطبعه ظلام حالك، وقلبه نور ممتزج بظلمة النفس، والنفس ظلمة ممتزجة بنور القلب، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً، وإن غلبت الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الأعراف: 179].
ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم، أجابه بقوله تعالى: {ما ودعك} أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع {ربك} أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً، وجعلك أكمل الخلق ثانياً، ورباك أحسن تربية ثالثاً، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له.
ولما كان ربما تعنت متعنت فقال: ما تركه ولكنه لا يحبه، فكم من مواصل وليس بواصل، قال نافياً لكل ترك: {وما قلى} أي وما أبغضك بغضاً ما، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال: «أخبركم بذلك غداً»، ولم يستثن، فقالوا: قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت لذلك، ولما نزلت كبر- صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع: تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما قال تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8] ثم أتبعه بقوله في الليل: {فسنيسره} [الليل: 7- 13] وبقوله: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} [الليل: 7- 13]، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى} ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وأعقب ذلك بقوله: {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر} فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما هو- صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه {وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 43] {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده- بملازمته التقوى والاعتبار- على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال- صلى الله عليه وسلم- لحارثة:«وجدت فالزم» وقال مثله للصديق، وقال تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 64] {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 30] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله: {يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 29] و{يجعل لكم نوراً تمشون به} [الحديد: 28] {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122] فعمل هؤلاء على بصيرة، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة، فقطعوا عن الدنيا الآمال، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16] {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى: {والليل إذا يغشى} ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى: {والنهار إذا تجلى} ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7] أشار قوله سبحانه وتعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3] {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49] {ففروا إلى الله} [الذاريات: 50] الواحد مطلقاً، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم- والله أعلم، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لاسيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة، وأنه- صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار: قلى محمداً ربه، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة- انتهى.
ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك» فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل، ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكيف بما له صلىلله عليه وسلم، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار: {وللآخرة} أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك ليفهم منه أنه لا يزال في ترق من على إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية {خير} وقيد بقوله: {لك} لأنه ليس كل أحد كذلك {من الأولى} أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولاسيما الضحى منه، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفُقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفُقراء، قد قال:
الناس في الدنيا على أربع ** والنفس في فكرتهم حائره

فواحد دنياه مقبوضة ** إن له من بعدها آخره

وواحد دنياه مبسوطة ** ليس له من بعدها آخره

وواحد قد حاز حظيهما ** سعيد في الدنيا وفي الآخره

وواحد يسقط من بينهم ** فذلك لا دنيا ولا آخره

ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة: {ولسوف يعطيك} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة {ربك} أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة {فترضى} أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك.
وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام: معطى راض، وممنوع غير راض، ومعطى غير راض، وممنوع راض، وعن علي رضى الله عنه أنها أرجى آية في القرآن لأنه- صلى الله عليه وسلم لا يرضى واحدًا من أمته في النار. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{سجى} مثل {دحاها} [الآية: 30] في (النازعات).

.الوقوف:

{والضحى} o لا {سجى} o لا {قلى} o لا {الأولى} o لا {فترضى} o ط {فآوى} o ص {فهدى} o ك {فأغنى} ط {فلا تقهر} o ط {فلا تنهر} o ط {فحدث} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

سورة الضحى:
إحدى عشرة آية.
مكية.
وأنا على عزم أن أضم إلى تفسير هذه السورة ما فيها من اللطائف التذكارية.
{والضحى (1) وَالليل إِذَا سجى (2)}
لأهل التفسير في قوله: {والضحى} وجهان:
أحدهما: أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها.
وثانيها: الضحى هو النهار كله بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله.
وأما قوله: {واليل إِذَا سجى} فذكر أهل اللغة في {سجى} ثلاثة أوجه متقاربة: سكن وأظلم وغطى. أما الأول: فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج: سجى أي سكن يقال: ليلة ساجية أي ساكنة الريح، وعين ساجية أي فائزة الطرف.
وسجى البحر إذا سكنت أمواجه، وقال في الدعاء: يا مالك البحر إذا البحر سجى.
وأما الثاني: وهو تفسير {سجى} بأظلم.
فقال الفراء: سجى أي أظلم وركد في طوله.
وأما الثالث: وهو تفسير {سجى} بغطى، فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار، مثل ما يسجى الرجل بالثوب، واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس: غطى الدنيا بالظلمة، وقال الحسن: ألبس الناس ظلامه، وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: إذا أقبل الليل غطى كل شيء، وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: سكن بالناس ولسكونه معنيان.
أحدهما: سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم.
والثاني: هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه واستوائه فلا يزداد بعد ذلك.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول:
ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل، وفي هذه السورة أخره؟.
قلنا: فيه وجوه:
أحدها: أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين، والليل له فضيلة السبق لقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وللنهار فضيلة النور، بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة، فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر، لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك، على هذا أخرى، ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله: {واسجدى واركعى} [آل عمران: 43] ثم قدم الركوع على السجود في قوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77].
وثانيها: أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر، وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب.
وثالثها: سورة والليل سورة أبي بكر، وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر، فإذا ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر، ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد، وإن ذكرت والضحى أولاً وهو محمد، ثم نزلت وجدت بعده، والليل وهو أبو بكر، ليعلم أنه لا واسطة بينهما.
السؤال الثاني:
ما الحكمة هاهنا في الحلف بالضحى والليل فقط؟
والجواب: لوجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول: الزمان ساعة، فساعة ساعة ليل، وساعة نهار، ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار، ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى.
بل للحكمة، كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس، فلا كان الإنزال عن هوى، ولا كان الحبس عن قلى.
وثانيها: أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به، فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لم يكن بد من أن يعمل به، فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه، قال: هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه.
وثانيها: كأنه تعالى يقول: انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق.
السؤال الثالث:
لم خص وقت الضحى بالذكر؟
الجواب: فيه وجوه:
أحدها: أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل، فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي.
وثانيها: أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه، وألقى فيها السحرة سجدًّا، فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفاً، فكيف فاعل الطاعة! وأفاد أيضاً أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك، والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك.
السؤال الرابع:
ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل بكليته؟
الجواب: فيه وجوه:
أحدها: أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمداً إذا وزن يوازي جميع الأنبياء.
والثاني: أن النهار وقت السرور والراحة، والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات، يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة، ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت أن امطري الهموم والأحزان مائة سنة، ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة، فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً.
وثالثها: أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر، والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور، فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت، ولما بعد الموت على ما قبله، فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها: ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره.
السؤال الخامس:
هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره؟ والجواب: نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال: والضحى ذكور أهل بيته، والليل إناثهم، ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي، لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش، ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب: والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب.
ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كل غريباً والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً، ويحتمل والضحى كمال العقل، والليل حال الموت، ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً، وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى (3)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال أبو عبيدة والمبرد: ودعك من التوديع كما يودع المفارق، وقرئ بالتخفيف أي ما تركك، والتوديع مبالغة في الوداع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض.
يقال: قلاه يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه، قال الفراء: يريد وما قلاك، وفي حذف الكاف وجوه:
أحدها: حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك، ولأن رؤس الآيات بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف.
وثانيها: فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا (قلا) أحد من أصحابك.
ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة، تقريراً لقوله: «المرء مع من أحب».
المسألة الثانية:
قال المفسرون: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال المشركون: قد قلاه الله وودعه، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية، وقال السدي: أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعل ربك نسيك أو قلاك، وقيل: إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، وروي عن الحسن أنه قال: «أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم الوحي، فقال لخديجة: إن ربي ودعني وقلاني، يشكو إليها، فقالت: كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك» فنزل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} وطعن الأصوليون في هذه الرواية، وقالوا: إنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه، بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة، وربما كان الصلاح تأخيره، وربما كان خلاف ذلك، فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها، أو ليعرف الناس قدر علمها.
واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي، فقال ابن جريج: اثنا عشر يوماً، وقال الكلبي: خمسة عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة وعشرون يوماً، وقال السدي ومقاتل: أربعون يوماً، واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فقال: «سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله» فاحتبس عنه الوحي، وقال ابن زيد: السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين، فلما نزل جبريل عليه السلام، عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: «أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» وقال جندب بن سفيان: رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه، فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت». فأبطأ عنه الوحي، وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار.
وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول:
الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى: قلنا أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى، وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل: «ما جئتني حتى اشتقت إليك، فقال جبريل: كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً» وتلا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} [مريم: 64].
السؤال الثاني:
كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده: إني لا أبغضك تشريفاً له؟
الجواب: أن ذلك لا يحسن ابتداء، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له: إني لا أبغضك ولا أدعك، وسوف ترى منزلتك عندي.
المسألة الثالثة:
هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله، إذ لو كان من عنده لما امتنع.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4)}
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها: أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة، بل أقصى ما في الباب، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال: انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت، لكن الموت خير لك.
فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا.
وثانيها: لما نزل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم.
وثالثها: ما يخطر ببالي، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز، ومنصباً إلى منصب، فيقول: لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً.
وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول:
بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيراً من الأولى؟
الجواب: لوجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا علي خير لأنك تفعل فيها ما تريد، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد.
وثانيها: الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم، وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة، ثم سمى الولد قرة أعين، حيث حكى عنهم: {هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
وثالثها: الآخرة خير لك لأنك اشتريتها، أما هذه ليست لك، فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيراً لك، لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكاً لك، فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل.
ورابعها: الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيداً على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيداً لك كما قال: {وكفى بالله شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29 28].
وخامسها: أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة، ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة.
السؤال الثاني:
لم قال: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ} ولم يقل خير لكم؟
الجواب: لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شراً له، فلو أنه سبحانه عمم لكان كذباً، ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون.
ولهذا السبب قال موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وأما محمد صلى الله عليه وسلم فالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعاً، لا جرم قال: {إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق، وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء، ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة، فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة.
فقال: لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة، فسأل موسى من هو؟ فقال: (إني) أبغضه فكيف أعمل عمله، فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات، وهذه جنازته في مصلى، كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى، فإذا فيها سبعون من الجنائز، فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه.
ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة، وهي أنه عليه السلام قال: «لولا شيوخ ركع» وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة، فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب وأحد، وههنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.
{ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5)}
واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين:
الأول: هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة: خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون.
فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه.
الوجه.
الثاني: كأنه تعالى لما قال: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك، فقال: لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع، وقد يمكن حمله على التعظيم، أما المنافع، فقال ابن عباس: ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها، وأما التعظيم فالمروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس، أن هذا هو الشفاعة في الأمة، يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال: إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار، واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال: {أَسْتَغْفِرُ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة، ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما يرضى بالإجابة، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لا الرد، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه.
علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين.
والثاني: وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك وتطييباً لقلبك، فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية والثالث: الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة، وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد، وعن الباقر، أهل القرآن يقولون: أرجى آية قوله: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية قوله: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت، هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، و(ما) هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة، واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول:
لم لم يقل: يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضاً؟
الجواب: لوجوه:
أحدها: أنه المقصود وهم أتباع.
وثانيها: أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء: نفسي نفسي، أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي، وأنت تقول: أمتي أمتي، أي أبدأ بهم، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم.
وثالثها: أنك عاملتني معاملة حسنة، فإنهم حين شجوا وجهك، قلت: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة، قلت: «اللهم املأ بطونهم ناراً» فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك، وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجحت حقي على حقك، لا جرم فضلتك، فقلت من ترك الصلاة سنين، أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره، ومن آذى شعرة من شعراتك، أو جزء من نعلك أكفره.
السؤال الثاني:
ما الفائدة في قوله: {ولسوف} ولم لم يقل: وسيعطيك ربك؟
الجواب: فيه فوائد إحداها: أنه يدل على أنه ما قرب أجله، بل يعيش بعد ذلك زماناً.
وثانيها: أن المشركين لما قالوا: ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة، فقال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] ثم قال المشركون: سوف يموت محمد، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}.
السؤال الثالث:
كيف يقول الله: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}؟
الجواب: هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات.
السؤال الرابع:
ما هذه اللام الداخلة على سوف؟
الجواب: قال صاحب (الكشاف): هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم، أو لام الابتداء، ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر، فلابد من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك، فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير؟ قلنا معناه: أن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة. اهـ.